إن قضية الإبداع والحرية، كما تثيرها الصحافة العربية اليوم، هي أساسا قضية مفتعلة وغير بريئة، وانتماؤها للتوظيف السياسي العابر أوضح من انتمائها إلى القيم الإبداعية الثابتة، وبهذا فهي حدث وحديث عارضين، وليست سؤالا وجوديا حقيقيا، ولم يثبت في التاريخ أن المبدعين الكبار قد اشترطوا الحرية قبل أن ينخرطوا في الفعل الإبداعي، والقضية أكبر وأخطر من هذه الصورة السوريالية الغريبة، وأعتقد أن انخراط بعض الفنانين اليوم في هذا الحديث، هو محاولة لتبرير بؤس العطاء الإبداعي لديهم، وهو هروب من مواجهة الحروب الحقيقية، في المواضيع والمضامين الحقيقية، إلى الأسئلة الجانبية والهامشية، وأعتقد أن للنقد الفني (الجديد) نصيبه الكبير والخطير في هذا الصخب الإعلامي الفارغ، والذي هو جعجعة بلا طحين، فهو يشغل نفسه بظلال الإبداع، وذلك بدل أن يدرس هذا الإبداع، وأن يفككه وأن يحلله، ويقرأ بنيته العميقة .
إن على المبدع المسرحي أن يبدع وكفى، هذا هو دوره الحقيقي، أما من يقول لك ( اعطني الحرية حتى أعطيك الإبداع) فهذا لا يمكن أن يكون مثقفا أبدا، ولا يمكن أن يكون أديبا أو فنانا، ومن الممكن جدا أن يكون تاجرا، وطبيعي أن منطقة المقايضة لا علاقة لها بالعطاء الإبداعي، ولا بالسخاء الفني، ولأن شجرة التفاح تعطي التفاح، بفعل قوة الحياة، وبفعل قانون الطبيعة، من غير أن تشترط أي شرط، فإن على الكاتب أن يكتب أيضا، وعلى المغني أن يغني، وعلى الممثل أن يمثل، وأن يكون ذلك استجابة لروح الحقيقة، واستجابة لصوت الوجود، وتجاوبا مع منطق التاريخ.
إن من طبيعة الإبداع الكبير أن يشق طريقه الكبير، وأن يؤسس مجال حريته، وكلما اتسع روح هذا الإبداع إلا واتسعت مملكته بالضرورة، وأصبحت خطاباته عابرة للحدود المادية والرمزية معا، وأصبح خالدا خلود الزمن، وهل يمكن أن يكون الإبداع ـ في معناه الحقيقي ـ إلا مكابدة ومعاناة؟ و .
إن الإبداع هو الجمال، والجمال أساسا طاقة وقوة، ومن يملك القدرة على مقاومة هذا الجمال إذا كان جاذبية وكان سحرا، وكان شفافا كالنور والهواء؟
وهل يحتاج الضوء إلى ترخيص من أية جهة من الجهات حتى يشع ويضيء؟
وهل يحتاج المبدع الحالم لمن يأذن له بالحلم؟
إن الإبداع طاقة خلاقة، وهي تفسر وتغير وتجدد وتثير وتدهش وتمتع وتعيد ترتيب المعاني والأشياء، وهذه الطاقة هي جزء من الطاقات المتجددة في الطبيعة، تماما كما جزء من الطاقات المتجددة في المجتمع العربي الحديث، والذي هو جزء من المجتمع الدولي والكوني الكبير، ولهذا المجتمع بنيته الخاصة بكل تأكيد، وله ثوابته الفكرية والجمالية والأخلاقية، وهو بهذا يؤثر ويتأثر، ويجدد في المتغيرات، ولكنه يظل ثابتا على الثوابت، والتي هي أساسا إبداع حقيقي خالص، ومن المؤكد أن هذا الإبداع هو ثمرة العبقرية العربية، وهو ثمرة النبوغ العربي عبر التاريخ.
أما بالنسبة للحديث عن العلاقة بين الحرية والإبداع ـ كما يطرح اليوم ـ فإن به قدرا كبيرا من التبسيط ومن التسطيح ومن الأمية أيضا، لأن الحرية ليست وصفة جاهزة، وليست مادة استهلاكية ينبغي أخذها مع الوجبات اليومية، ولكنها إحساس داخلي، وكل مبدع لا يتوفر على هذا الإحساس، فإن عليه أن يذهب ليفعل أي شيء آخر، وهذا هو الفرق بين الصانع والفنان، فالأول يتحكم فيه الزبون والسوق، أما الثاني فهو سيد نفسه وسيد عالمه وكونه، وهل طالب عنترة بن شداد بالحرية قبل أن يبدع معلقته الشعرية الخالدة؟
إن شرط المبدع الحقيقي أن يكون إنسانا أولا، وأن يكون مواطنا مدنيا ثانيا، وأن يكون صاحب رؤية ورؤيا ثالثا، وأن يكون له موقف من الناس والأشياء رابعا، وأن يكون صادقا مع نفسه وفنه خامسا، وأن يكون دائم الإنصات إلى نبض الشارع سادسا، وأن يكون عرافا ومتنبئا سابعا، وأن يراهن على الحقائق الثابتة وليس على الأعراض الجانبية العابرة ثامنا.
وأعتقد أن المسرح ـ مثلا ـ لا يمكن أن يكون إلا فعلا حرا، ولا أظن أن مسرحيا حقيقيا، يجمع الناس حول الحقيقة، ومن جل الكشف عن هذه الحقيقة، لا يمكن أن يكون حرا بشكل حقيقي، وأن يكون في حريته واضحا وفاضحا وكاشفا ومشاغبا ومشاكسا ومشككا في البديهيات و( اليقينيات) الزائفة.